الثلاثاء، 27 مايو 2014

الشّك

الشّك .. uncertainty  .. مبدأ مهم في الفيزياء .. فما هو :
هناك درجات و كل درجة لها اسم و هي الريب و الوهم و الشك و الظن و اليقين :
هذه الدرجات ذكرها القرآن كل منها في موضعه :

1-    الريب و هو ما يؤل إلى الصفر و لهذا نزه الحق عز و جل الكتاب الكريم من الريب و أكد أن يوم القيامة لا ريب فيه و هنا = 0 : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة : 2]، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 23]، {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران : 9]، {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران : 25]، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء : 87]، {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام : 12]، {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس : 37]،  {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء : 99]، {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف : 21]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ...} [الحج : 5]، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج : 7]، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة : 2]، {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غافر : 59]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى : 7]، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية : 26]، {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية : 32]، {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور : 30]. إذا التربص كما يفهم من الآيات هو مآل الشيء إلى الصفر.
2-    الوهم هو ما يخالج النفس لكنه دون الشك و أكثر من الريب، ولم يرد ذلك في القرآن الكريم.
3-    الشك و هو أصل هذا المقالة و فيه تتساوى القيمة بين الوهم و الظن و تكون النسبة 50% بالضبط، ففي الفيزياء مثلاً لا تستطيع أن تجمع بين موقع الإلكترون و قياس سرعته في نفس الوقت، فالفوتون الذي سيحدد لك سرعة الإلكترون سيغير من هذه القيمة حال ملامسته للإلكترون، و كذلك الفوتون الذي سيحدد موقع الإلكترون سوف يؤثر في هذا الموقع حال ملامسته له، و قد قال تعالى {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء : 157]، و {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس : 104]، و قد وردت كلمة شكّ في القرآن الكريم 15 مرة.
4-    الظن و هو ما فوق الشك و دون اليقين أي أكثر من 50% و أقل من 100% و لو بالشيء اليسير ، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة : 46]، و ورد هذا في جانب مدح المؤمنين كما في قوله تعالى {... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 249]، و حتى الرسول قال فيهم عز و جل {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف : 110].
5-    اليقين و هو تمام الحق و الذي يصل فيه إلى 100%  هو ثلاث درجات، علم اليقين {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر : 5] و فيه أن تأتيك المعلومة ممن لا يوجد مجال في الظن فيه، حيث تكون المعلومة منه حقيقة يقينية، و يزيد على هذا عين اليقين {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر : 7] و هي حينما تعاين أنت بعينك هذه المعلومة، و يزيد عن هذا إلى حق اليقين {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة : 51] حيث يظهر لك كنه الشيء و تصل إلى الحقيقة و تفهمها و تعيها.


الجمعة، 23 مايو 2014

قصة وفاء



قِصَّةُ وَفَاءٍ ...
كَانَ فِيْ مَاضِيْ الْزَّمَانِ الْقَرِيْبُ .. رَجُلٌ غَنِيٌّ .. لَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَىَ رَوَابِطَ عَائِلِيَّةٍ .. وَ لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ بِإِخْوَةِ وَ لا بِأَخَوَاتِ ..
طَلَبَ مِنْهُ إِبْنُهُ الْشَّابُّ الْوَحِيْدُ ذَاتَ مَسَاءٍ .. أَنْ يَتَقَدَّمَ لِلْزَّوَاجِ مِنْ ابْنَةِ عَمِّهِ .. الْفَقِيْرِ ..
نَظَرَ إِلَيْهِ أَبُوْهُ بِنَظْرَةِ اسْتِغْرَابٍ وَ تَأَفُّفٍ ... فقَالَ: أَلَمْ تَجِدْ سِوَىْ هَذِهِ الْفَتَاةُ لِتَتَزَوَّجَهَا ... لَئِنْ طَالَتْ بِيَ الْحَيَاةُ لَنْ تَتَزَوَّجَهَا ..
"" نَعَمْ كَانَ الْكِبَرُ يَعْتَلِيْ هَذَا الأَبَ "" وَ كَانَ الْإِصْرَارُ عَلَىَ الْقَرَارِ يَعْتَلِيْ هَذَا الْشَّابَّ ""
تَخَرَّجَ هَذَا الشَّابُّ مِنْ مَرْحَلَتِهِ الدِّرَاسِيَّةِ الثَّانَوِيَّةِ .. فَمَا كَانَ مِنَ أَبيهِ إِلاَّ أَنْ أرْسَلَهُ إِلَىَ أَرْقَىْ الْجَامِعَاتِ .. خَارِجَ الْبِلادِ .. لِيُكْمِلَ دِرَاسَتَهُ .. ليَكُوْنُ عَوْنَاً لَهُ فِيْ الْعَمَلِ فِيْ الْشَّرِكَةِ وَ تَطْوِيْرِهَا.
.. ذَهَبَ اِبْنُ الْغَنِيِ إِلَى الْغُرْبَةِ .. وَ فِيْهِ نَشْوَةُ الْنَّجَاحِ .. وَ زَهْوُ الْتَّقَدُّمِ ..
وَ فِيْ سَكَنِ الْجَامِعَةِ الْتَقَىْ مَعَ شَابٍّ ظَرِيْفٍ وَ لَطِيْفٍ .. لا تَتْرُكُ الابْتِسَامَةُ وَجْهَهُ .. وَ لا الْدُّعَابَةُ مُحَيَّاهُ..
أَحَبَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآَخَرَ .. وَ لَكِنْ !!
هَذَا الْشَّابَّ الْظَّرِيْفُ كَانَ يَتِيْمٌ .. وَ قَدْ أَنْفَقَتْ أُمُّهُ كُلَّ مَا تَمْلِكُ لِيُكْمِلَ تَعْلِيْمَهُ ..
يَحْزَنُ فِيْ ظُلُمَاتِ الْلَيْلِ عَلَىَ فِرَاقِ أُمّهِ الْمِسْكِيْنَةِ .. الضَّعِيْفَةِ ..
يَنْتَظِرُ فِيْ الْنَّهَارِ مَتَىَ يَصِلُ إليه بَرِيْدٌ .. يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ يَطْمَئِنُ عَلَىَ أُمِّهِ .. وَ يَسْتَطِيْعُ بِالْمَصْرُوفِ الْقَلِيْلِ أَنَّ يُدِيْرَ أُمُوْرَهُ.
وَ حِيْنَ تَأَخَّرَّ الْبَرِيدُ .. لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ أَخْرَجَ مَا فِيْ قَلْبِهِ لِصَدِيْقِهِ الْجَدِيْدِ ابْنِ الْغَنِيِ!!
وَ بَادَرَ الْأَخِيرُ بِالتَّرْحِيْبِ وَ الْمُسَاعَدَةِ وَ دَفَعَ كُلَّ احْتِيَاجَاتِ زَمِيْلِهِ ابْنِ الْفَقِيْرِ ...
وَ مَعَ تَنَامِيْ الْمَحَبَّةِ بَيْنَهُمَا .. وَصَلَتْ الْأَخْبَارُ لِلْرَّجُلِ الْغَنِيِ .. الَّذِيْ اسْتَعَدَّ بِمَصَارِيْفِ إِبْنَهِ وَ صَاحِبِهِ إِبْنُ الْفَقِيْرَ ....
وَ لِمَا عَلِمْتُ أَمَ الْشَّابُّ الْفَقِيْرَةِ .. مَا كَانَ مِنْهَا إِلاَّ أَنْ تُرْسِلَ ِالْهَدَايَا لاِبْنِهَا وَ صَاحِبِهِ .. هَدَايَا مُتَوَاضِعَةً ..
تَتَخَلَّلُهَا رَسَائِلُ الْشُّكْرِ وَ التَّقْدِيْرِ ..
وَ تَمُرُّ الْأَيَّامُ الْجَمِيلَةُ عَلَىَ الْإِنْسَانِ سَرِيْعَاً .. وَ انْتَهَتْ سَنَوَاتُ الابْتِعَاثِ وَ الدِّرَاسَةِ الْأَرْبَعِ وَ كَأنَّهَا أَسَابِيْعَ ..
وَ عِنْدَ الْعَوْدَةِ طَلَبَ الْرَّجُلُ الْغَنِيُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْ يَسْتَضِيْفَ صَاحِبَهُ لِلْعَمَلِ فِيْ شَرِكَتِهِ.. مُسَاعِدَاً لاِبْنِهِ .. وَ لِيَكَوِّنَ نَفْسَهُ سَرِيْعَاً
.. لَمْ تَمْضِ سَنَتَانِ مِنْ الْعَمَلِ الْجَادِ وَ الْمُثَابَرَةِ .. حَتَّىَ كَانَ الْشَّابُّ اللَّطِيْفُ ابْنُ الْفَقِيْرِ .. قَدْ جَمَعَ مَا يَكْفِيْهِ مِنَ الْمَالِ .. لِيَعُوْدَ إِلَىَ أُمِّهِ مُكَلَّلاً بِالْنَّجَاحِ .. وَ انْتَهَتْ هَذِهِ الْسِّتُّ سَنَوَاتٍ مِنْ الصُّحْبَةِ وَ الْزَّمَالَةِ .. مِنْ الْمَحَبَّةِ وَ الْتَّضْحِيَةِ .. مِنْ الأُخْوَّةِ وَ الْصَّدَاقَةِ ..
وَ لَمْ تَنْتَهِ الْعَلَاقَةُ الْحَمِيْمَةُ ، فَظَلَّتِ الْمُرَاسَلاتُ بَيْنَ الْشَّابَّيْنِ عَبْرَ الْبَرِيدِ .. وَ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الْزَّمْنِ .. اشْتَاقَ كُلُّ مِّنْهُمَا إِلَىَ الْآَخَرِ ..
وَ مَعَ انْهِمَاكِ ابْنِ الْغَنِيِ فِيْ الْعَمَلِ فِيْ شَرِكَةِ أَبِيْهِ .. إِلاَّ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَىَ صَاحِبِهِ .. يَطْلُبُ مِنْهُ الْزِّيَارَةَ .. وَ يترَجَّاهُ لِتَحْقِيْقِ طَلَبِهِ ..
لَمْ يَتَرَدَّدْ صَاحِبُهُ بِالْمُوَافَقَةِ .. وَ رَدّ عَلَىَ رِسَالَتِهِ بِرِسَالَةٍ يُحَدَّدُ فِيْهَا أَنَّهُ سَيَصِلُ يَوْمَ السَّبْتِ الْقَادِمِ .. أَوَّلَ أَيَّامِ الأُسْبُوْعِ !!!
وَ فِيْ عَصْرٍ تَتَسَارُعُ فِيْهِ الأَحْدَاثُ .. وَ تَكْثُرُ المُفاجَآتُ .. وَافَتِ الْمَنِيَّةُ الْرَّجُلَ الْغَنِيَ فَجْأَةً يَوْمَ الْخَمِيْسِ .. مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَيِّ إِشَارَةٍ.
وَ دَفَنَهُ ابْنُهُ وَ أَهْلُهُ الْمُنْقَطِعِينَ عَنْهُ .. يَوْمَ الْجُمُعَةِ .. وَ فِيْ مَسَاءِ هِذَا الِيَوْمِ .. جَمْعَ ابْنُ الْغَنِيُّ الْخَدَمَ وَ الْحَشَمَ حَوْلَهُ ..
وَ قَالَ : أَبِيْ مَاتَ وَ لَنْ يُعِيْدُهُ الْبُكَاءُ .. أَوْ الْحُزْنُ ..
وَ غَدَاً سَيَصِلُ صَاحِبِيِ .. الأَوَّلُ .. وَ عَزَائَيِ هُوَ أنْ يَصِلَ وَ أسْتَقْبِلَهُ .. وَ لَا أُرِيْدُهُ أَنْ يَعْلَمَ بِمَوْتِ أَبِيْ الْمُفَاجِئِ ..
لِهَذَا عَلَى الْجَمِيْعِ أَنْ لا يُخْبِرُوْهُ بِهَذَا .. فَلَنْ يَبْقَىْ سِوَىْ يَوْمَيْنِ .. وَ بَعْدَهَا سَوْفَ نُقِيْمُ الْعَزَاءِ .. بَعْدَ أَنْ يُغَادِرَ ..
وَ اتَّفَقَ الْجَمِيْعُ عَلَىَ أَنَّ يُخْبِرُوْهُ أَنَّ الرَّجُلَ الْغَنِيَ مُسَافِرٌ خَارِجَ الْبِلَادِ ،،،
حَضَرَ الْصِّدِّيقُ ابْنُ الْفَقِيْرِ .. وَ اسْتَقْبِلْهُ الْجَمِيْعُ بالْحْفُاوَةِ وَ التَّكْرَيِمّ .. وَ أُقِيْمَ وَاجِبُ الْكَرْمِ مَعَهُ عَلَىَ أَكْمَلِ وَجْهٍ .. وَ خَرَجَ الْصَّدِّيْقَانِ فِيْ نُزْهَةٍ .. خَارِجَ الْمَنْزِلِ .. يَجُوِلَانِ وَ يصُولانِ وَ يَتَذَكَّرَانِ الْأَيَّامِ الْحُلْوَةَ الْمَاضِيَةَ .. وَ يُفَكِّرُوْنَ بِالأَيَّامِ الْقَادِمَةِ ..
وَ أَثْنَاءِ جولْتِهِمْ فِيْ شَوَارِعِ قَرْيَتِهِمْ الْصَّغِيْرَةِ .. لَمْحَ ابْنُ الْفَقِيْرِ لَمْحَةٌ .. طَارَتْ مِنْهَا مَشَاعِرَهُ .. وَ تَعَلَّقَتْ بِهَا نَفْسُهُ ..وَ وَ وَ ..
وَ عَادَا الْشَّابَّانِ إِلَىَ قَصْرِ ابْنِ الْغَنِيُّ مَعَ اقْتِرَابِ وَقْتُ الْنَّوْمِ .. وَ ذَهَبَ كُلُّ مِّنْهُمَا إِلَىَ سَرِيْرَةِ ..
اطْفَاءَ صَاحِبُ القَصْرِ ضَوْءُ غُرْفَتِهِ .. لَيَهْجّعَ إِلَىَ الْنَّوْمِ .. وَ فِيْ قَلْبِهِ حُزْنِ فَقَدْ أَبِيْهِ ......
لاحَظَ مَعَ هَذَا الْتَّعِبِ وَ الإِهْتِمَامِ بِصَدِيْقِهِ ابْنُ الْفَقِيْرِ أَنَّ ضَوْءَ غُرْفَتِهِ لَمْ يُطْفَاءْ.... وَ شُبَّاكِ غُرْفَتِهِ يُغْلَقْ .. وَ الْهَوَاءُ يَلْعَبُ بِأَسْتَارِ الْنَّافِذَةِ ..
 خَافَ الْمُضِيفِ أَنْ يَكُوْنَ الْضَّيْفُ عَرَفَ بِمَوْتِ أَبِيْهِ .. فَيَنْقَلِبُ فَرَحَهُ حُزْنٍ ...
فَأَخَذَ يَتَسَحَّبُ الْهُوَيْنَ .. حَتَّىَ وَصَلَ غُرْفَةَ صَاحِبُهُ .. طَرَقَ الْبَابُ طَرْقَاً خَفِيَفْاً .. فَسَمِعَ صَاحِبُهُ يَتَأهّهُ وَ يَتَنَهَّدُ وَ رَدَّ بِصَوْتٍ خَافِتٍ "أُدْخِلَ" ...
فَدَخَلَ عَلَيْهِ .. وَ وجَدَهُ يَنْظُرُ إِلَىَ سَقْفِ الْغُرْفَةِ .. بِعَيْنَانِ نَاعِسَتَانِ .. فَبَادَرْهُ بِالْسُّؤَالِ "مَالَكَ يَا صَاحِبَيِ ، أَلَمْ تَنَمْ !؟ " ...
رَدَّ بِزَفْرَةٍ : "كَيْفَ لِيَ أَنْ أَنَامَ ... لَقَدْ سَرَقَتَ عَقْلِيْ .. وَ قَتْلَتَنِي بِنَظْرَةٍ رَمَتْهَا عَلَيَّ .. وَ . وَ... لَيْتَنِيْ أَعْرِفُهَا ؟ " ..
ضَحِكَ ابْنَ الْغَنِيُّ بَعْدَ أَنْ إِطْمَأَنَّ عَلَىَ صَدِيْقَهِ .. بِأَنَّهُ لا يَعْرِفُ شَيْءً عَنْ مَوْتِ أَبِيْهِ ؟ ..
فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ تَعْرِفُ قَدْرِيْ وَ مَقْدِرَتِي ؛؛ فَوَاللَّهِ لَنْ يُصْبِحَ الْغَدُ إِلاَّ وَ هِيَ زَوْجَتُكَ عَلَىَ سُنَّةِ الْلَّهِ وَ رَسُوْلِهِ ،،، فَنمِ قَرِيْرَ الْعَيْنِ يَا عَزِيْزِيْ.
فَنَامَ وَ نَامَ صَاحِبُهُ :: وَ مَعَ صَلاةِ الْفَجْرِ .. تَيَقَّظَ ابْنُ الْفَقِيْرِ أوَّلاً .. ثُمَّ أيْقَظَ صَاحِبَهُ .. ثُمَّ ذَهَبَ يَلْبَسُ لِبْاسَ الْفَرَحِ وَ الزِّيَارَاتِ الْرَّسْمِيَّةِ ... فَتَعَجَّبَ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَ قَالَ لَهُ: اصْبِرْ وَ لا تَسْتَعْجِلْ ؛؛؛ فَالأمْرُ مُنْتَهٍ ::: فَقَطْ اصْبِرْ!!
افْطَرَا سَوِياً ثُمَّ خَرَجَا باكراً ,,, وَ كَانَ ابْنُ الْفَقِيْرِ هُوَ مَنْ يَقُوْدُ الْعَرَبَةَ ؛؛ يَمِيْناً ثُمَّ شَمَالاً وَ مِنْ الْشَّارِعٍ وَ إلَىَّ شَارِعٍ ...
حَتَّىَ وَصَلَ مَقْصِدَهُ .. ثُمَّ أَشَارَ إِلَىَ بَيْتٍ وَ أَيُّ بَيْتٍ .. إِنَّهُ بَيْتُ أَحَدِ أَقَارِبِ ابْنِ الْغَنِيِ ... الَّذِيْ أَشَارَ بِرَأْسِهِ ..  قَائلاً : أهَذَا هو ؟!
قَالَ : نَعَمْ ،،، قَالَ: إِذَنْ .. إِنْزِلْ ...
نَزَلا سَوِيّاً ،، طَرَقَ الْبَابَ .. فَتَحَ الْبَابَ رَجُلٌ ... نَظَرَ إِلَى ابْنِ الْغَنِيِّ .. طويلاً .. بِاسْتِغْرَابٍ شَدِيْدٍ . ثُمَّ قَالَ : تَفَضّلا .. ادْخُلا ..
وَدَخَلا سويّاً إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الْمُتَوَاضِعِ .. وَ بِسُرْعَةٍ قَالَ ابْنُ الْغَنِيِّ : يّا عَمِّي .. أَتَيْنَا نَخْطُبُ إِحْدَىَ بَنَاتِكَ .. فَلا تَرْفُضْ طَلَبَنَا ..
ظَهَرَتْ عَلامَاتُ الاسْتِغْرَابِ عَلَىَ مُحَيَّا صَاحِبِ الْبَيْتِ .. رَدَّدَ ابْنُ الْغَنِيِّ : أَيْنَ هُنَّ .. نادِهُنِّ .. وَ عَلَىْ غَفْلَةٍ حَضَرَتِ الْبَنَاتُ جَمِيْعُهُنَّ .. وَ أَلْقَيْنَ السَّلامَ .. وَ نَطَقَ ابْنُ الْفَقِيْرِ قَائِلاً : هَذِهِ، هَذِهِ مَنْ أُرِيْدُ !!!.
خَيَّمَ الصَّمْتُ عَلَىَ الْجَمِيْعِ بُرْهَةً مِنَ الْزَمَنِ ... وَ قَالَ ابْنُ الْغَنِيُّ : يَا عَمِّ .. أَطْلُبُ يَدَ ابْنَتِكَ وَفَاءٍ .. لِصَدِيْقِيْ !!.
رَفَعَ الْرَّجُلُ صَوْتَهُ .. الْرَّجُلُ الَّذِيْ كَانَ هَادِئَاً .. وَ نَادَى عَلَىَ ابْنِ الْغَنِيِّ : تَعَالَ مَعِيَ ...
أَخَذَهُ فِيْ جَانِبٍ آَخَرَ مِنْ الْغُرْفَةِ .. فَالَبَيْتُ صَغِيْرٌ .. وَ هَمْسَ بِإِذْنِهِ : يَابْنَ أَخِيْ .. أَنْتَ مَنْ امْتَنَعَ عَنِ الزَّوَاجِ .. مِنْ أَجْلِ وَفَاءٍ كُلُّ هَذَا الْزَّمَنِ .. وَ هِيَ تَعْرِفُ حُبََّكَ لَهَا .. وَ أَنْتَ تَعْرِفُ مَوَافَقَتِي عَلَىَ خُطوبَتِكَ .. وَ رَفْضُ أَبيكَ رَحِمَهُ الْلَّهُ .. كَانَ الْعَائِقُ الْوَحِيْدُ .. وَ الآنْ مَاذَا أَسْمَعُ ؟؟؟ تخْطَبُ يَدَ وَفَاءٍ لِصَاحِبِكَ!! هَلْ جُنِنَتْ ؟
أَجابَ ابْنُ الْغَنِيِّ: يَا عَمَّيْ .. أَنْتَ تَعْرِفُ مِقْدَارَ حُبّيْ لِوَفَاءٍ .. وَ هِيَ تَعْرِفُ هَذَا .. وَ هَذَا صَدِيْقِيْ .. وَ لَمْ يَعْرِفْ بِوَفَاةِ أَبِيْ .. وَ لَنْ أَخْبِرَهُ بِهَذَا .. وَ أَنَا أَعْطَيْتُهُ وَعَداً الْبَارِحَةَ بِأَنَّ أُزَوِّجُهُ مِنَ يُرِيْدُ !! وَ هَذَا وَعْدٌ يَجِبُ أَنْ أَفِيَ بِهِ !!
خَرَجَتْ وَفَاءُ مِنَ الْغُرْفَةِ .. وَ لَحِقَ بِهَا أَخَوَاتُهَا .. وَ بَدَأَ الْعَرَقُ يَتَصَبَّبُ مِنْ ابْنِ الْفَقِيْرِ .. الَّذِيْ كَان  مُنْدَهِشاً مِنْ هَذِهِ الأَحْدَاثِ.
أَعْلَنَ ابْنُ الْغَنِيِّ فِيْ هَذَا الْمَجْلِسِ .. مُوَافَقَةِ الْعَمِّ لِزَوَاجِ صَاحِبِهِ الْحَمِيْمِ .. ابْنِ الْفَقِيْرِ .. مِنِ إِبْنَةِ عَمِّهِ الَّتِيْ أَحَبَّهَا طَوَالَ عُمُرِهِ الْمَاضِيْ .. وَفَاءَ ..
وَ فِيْ الْغَدِ .. أُقِيْمَتْ حَفْلَةُ الْزَّفَافِ .. وَ فِيْ الْيَوْمِ الَّذِيْ يَلِيْهِ حَمَّلَ ابْنُ الْغَنِيِّ صَاحِبَهُ بِالْهَدَايَا .. مَعَ أَنَّهُ أَخَذَ وَفَاءَ زَوْجَةً لَهُ ..
وَ فِيْ الأَرْبَعَاءِ مَضَىْ الْيَوْمُُ سَرِيْعَاً .. الْجَمِيعُ قَدْ تَعِبَ مِنْ عَزَاءٍ وَ زَفَافٍ .. لِقَاءٍ وَ فِرَاقٍ .. مَوْتٍ وَ حَيَاةٍ جَدِيْدةٍ ..
وَ فِيْ الْخَمِيْسِ .. تَيَقَّظَ ابْنُ الْغَنِيِّ .. وَ قَدْ فَقَدَ .. أَغْلَىْ إِنْسَانٍ لَهُ .. أَبُاهُ
وَ خَسِرَ أَغْلَىْ حَبِيْبَةٍ .. إِبْنَةَ عَمِّهِ ..
وَ تَرَكَ أَعَزَّ صَدِيْقٍ .. ابْنَ الْفَقِيْرِ ..
كَأَنَّهُ .. صَحَى مِنْ حُلُمٍ طَوِيْلٍ .. وَ لَمْ يَشْعُرْ بِهَذِهِ الْآَلامِ كُلُّ هَذَا الأُسْبُوْعِ .. وَ بَدَأَتْ جِرَاحُهُ تَنْزِفُ مِنَ الدَّاخِلِ ..
كَيْفَ حَصَلَ هَذَا .. ! ؟
قَرَّرَ .. أَنْ يُغْلِقَ عَلَىَ نَفْسِهِ بَابَ غُرْفَتِهِ .. لَمْ يُصَدِّقْ مَا حَصَلَ !!
تَأَخَّرَ عَنْ أَصْدِقَائِهِ .. افْتَقُدُوهُ .. لا يَحْضُرُ لِلْشَّرِكَةِ .. لا يُجِيْبُ عَلَىَ رَسَائِلِ أَصْحَابِهِ .. لا .. لا ..
وَ فِيْ اجْتِمَاعٍ خَاصٍ بَيْنَ أَصْحَابِهِ .. قَالَ أَحَدُهُمْ أَنْتُمْ لا تَعْرِفُوْنَهُ جَيِّدَاً .. أَنَا مَنْ سَيُخْرِجُهُ مِنْ هَذِهِ الأَزْمَةِ ..
أَخَذَ زُجَاجَةً مِنَ الْخَمْرِ ... وَ ذَهَبَ يَزُوْرُهُ فِيْ قَصْرِهِ .. وَ أَصَرَّ عَلَىَ الْخَدَّمِ أَنْ يُقَابِلَهُ .. وَ بَعْدَ عَنْاءٍ وَ جِدَالٍ .. خَرَجَ صَاحِبُنْا مِنْ الْغُرْفَةِ .. وَقَدْ طَالَ شَعْرُهُ .. وَ ظَهَرَ الْيَأْسُ مِنْ عَيْنَيْهِ ..
أْخذَ صَاحِبُهِ فِيْ الأَحْضَانِ .. وَ قَالَ لَهُ : يَجِبُ أَنْ تَنْسَىْ وَ تَخْرُجَ مِمَّا أَنْتَ فيه .. وَ جِئْتُ لَكَ بِالْعِلاجِ مَعِيَ .. هَذَا هُوَ !
وَ أَقْسَمَ لَهُ بِكُلِّ الأَيْمَانِ أَنَّ يَأْخُذَ .. كَأْساً وَاحِدَةً .. فَقَطْ
نَعَمْ هِيَ الْكَأْسُ الأُوْلَى .. لَكِنَّهَا لم تكن الأَخِيرَةُ .. فَقَدْ أَخَذَ بَعْدَهَا مَا بِهِ يُضِيْعُ صُدَاعُ الأُوْلَى .. وَ انْجَرَفَ .. وَ صَارَ لا يُفِيْقُ .. إلاَّ وَ الزُجَاجَةُ بِجَانِبِهِ .. لِيَتَنَاوَلَ كَأْساً جَدِيْدةً ..
بَعْدَ فَتْرَةٍ لَمْ يَسْتَسِغْ هَذَا الْنَّوْعُ مِنَ الْمَشْرُوْبَاتِ .. ! فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ .. : إِنَّ فِيْ الْبَارِ .. أَنْوَاعاً أُخْرَىَ كَثِيْرَةً .. أَلَذُّ وَ أَجْمَلُ .. فَقَطْ إلْبَسْ . وَ دَعِ الْقيَادَةَ لَنَا ...
نَعَمْ أَخَذَهُ إِلَى الْبَارِ .. وَ هُنَاكَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَ كَثِيْرَةٌ .. بِأَشْكَالٍ جَمِيْلَةٍ .. وَ أَذْوَاقٍ تُنَاسْبُ جَمِيْعُ الأَذْوَاقِ ..
وَ لَكِنْ هَلْ يَخْلُوَ بَار مِنْ قِمَارٍ !! لا .. فَهُوَ مُتَنَفّسُ مَُرْتادِيّ البارَتِ .. وَ مَكَانَ الْكَسْبِ وَ الْخَسَارَةِ ..
وَ لَقَدْ انْجَرَفَ فِيْ الْبَارِ إِلَىَ الْقِمَارِ .. يَكْسِبُ مَرَّةً فَيَفْرَحُ وَ يَخْسَرُ عَشْرُ مَرَّاتٍ لِيُعَوِّضَ خَسَارَةَ مَرَّةٍ !!
فِيْ الْشِّتَاءِ .. الْجَوُ بَارِدٌ .. وَ الْمَطَرُ يَنْزِلُ بِغَزَارَةٍ .. وَ الْكُلُّ يَحْتَرِقُ .. لَيَكْسَبَ .. وَ ابْنُ الْغَنِيِّ يُرَاهِنُ عَلَى .. آَخَرِ وَرَقَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ .. قَصْرُ وَالِدِهِ الأَخِيرِ .. وَ كَانَ هُوَ أَغْلَى وَ آَخِرَ مَا يَمْلِكُ .. وَ رَمَىَ هَذِهِ الْوَرَقَةَ فَكَانَتْ الْنِّهَايَةُ !!!
أَلْقَاهُ أَصْحَابُهُ .. خَارِجَ بَابِ الْبَارِ .. قَبْلَ طُلُوْعِ الْنَّهَارِ .. وَ الْسَّمَاءُ تُهْطلُ بِالأَمْطَارِ ..
فَاقَ مَعَ شُرُوْقِ الْشَمْسِ .. وَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَحَدٌ سِوَىْ ... صَدِيْقِهِ الْحَمِيْمِ .. حَبِيْبَتِهِ الَّتِيْ فَقَدَهَا ..
بِثِيَابٍ رَثَةٍ وَ بِدُوْنِ مَالٍ .. أَخَذَ يَسِيْرُ حَافِيَ الْقَدَمَيْنِ .. تَحْتَ الْسَّمَاءِ الْغَائِمَةِ .. وَ صَوْتُ الْرَّعْدِ الْمُزَمْجِرِ .. وَ ضَوْءُ الْبَرْقِ الخاطف..
يَسِيْرُ وَ يَسِيْرُ وَ يَسِيْرُ .. حَتَّىَ وَصَلَ إِلَىَ قَرْيَةِ صَاحِبِهِ .. قُبيلَ غُرُوْبِ الْشّمْشِ .. وَ هُوَ جَائِعٌ .. مُنْهَكٌ .
سَأَلَ وَ سَأَلَ بِلَهَفةٍ .. حتى دَلّوْهُ عَلَىَ قَصْرِ صَاحِبِهِ .. و وَصَلَ إليه مَعَ الْغُرُوْبِ .. وَ قَدْ هَدَأَتِ الأَمْطَارُ قَلِيْلاً ..
نَظَرَ لِلْقَصْرِ مِنْ بَعِيْدٍ .. فَإِذَا صَدِيْقُهُ فِيْ الْشُّرْفَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ .. جَرَىْ إِلَىَ بَابِ الْقَصْرِ .. وَ أَخَذَ يَطْرُقُ بِقُوَّةٍ ..
عَرَفَهُ صَاحِبُهُ.. فَنَادَىْ بِأَعْلَىْ صَوْتِهِ عَلَىَ الْخَدَمِ : مَنْ هَذَا .. مَنْ هَذَا ..
وَ ابْنُ الْغَنِيِّ يَنْظُرُ إِلَىَ صَاحِبِهِ بِشَوْقٍ وَ لَهْفَة .. وَ يَسْمَعُ صراخه .. فَسَمِعَهُ يَقُوْلُ لِزَوْجَتِهِ .. اِبْنَةُ عَمَّهِ وَ حَبِيْبَتِهِ .. : أَهَذَا .. اِبْنُ عَمِّكِ .. يَرْفَعُ صَوْتَهُ أَكْثَرَ !! أَهَذَا هُوَ .. اِبْنُ عمِكِ .. وَ يَرْفَعُ يَدَهُ .. وَ لا يَسْمَعُ ابْنُ الْغَنِيّ إِلاَّ لَطْمَةً قَوِّيَّةً ..
أُدْخُلِيْ .. ثُمَّ أَغْلَقَ الْشُّرْفَةَ .. وَ أَغْلَقْ السَّتَائِرَ وَ خَيَّمَ الصَّمْتُ عَلَىَ الْمَكَانِ !!!
فَأَبْرَقَتْ الْسَّمَاءُ .. ثُمَّ أَرْعَدَتْ .. ثُمّ أَمْطَرَتْ .. وَ يَزْدَادُ اِنْهِمَارُ الْمَطَرِ .. وَ يَتَقَدَّمُ أَحَدُ الْخَدَمِ .. لَيُغْلِقَ الْبَابَ بِوَجْهِ ابْنِ الْغَنِيِّ ..بِقُوَّةٍ !
شَجَرَةٌ كَبِيْرَةٌ أَمَامَ بَابِ الْقَصْرِ .. ذَهَبَ إليَهَا .. لِيَتَّقِيَ بِهَا شِدَّةَ الْمَطَرِ .. وَ بَدَأَ الْظَّلامُ يُخَيِّمُ عَلَىَ الْمَكَانْ .. وَ يُرْخِيَ سُدُوْلَهُ ..
تَاهَ صَاحِبُنْا .. وَ احْتَارَ .. حَتَّى فَكَّرَ في ِالإِنْتِحَارِ .. وَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ الْمُتْعَبَتَانِ .. وَ ضَمَّ عَلَيْهِمَا يَدَيهِ المُتْهَالِكَتَينِ ..
فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُفَكِّرَ فِيْ شَيْءٍ أَبَداً ...
وَ لَكِنْ وَ مَعَ هَذَا انْفَتَحَ بَابُ الْقَصْرِ .. وَ خَرَجَ الْخَدَمُ يَحْمِلُوْنَ عَلَىَ أَكْتَافِهِمْ صُنْدُوْقاً .. يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ .. صُنْدُوْقٌ أَسْوَدُ ؟؟
إِنَّهُ صُنْدُوْقٌ طَوِيْلٌ .. تَابُوْتٌ .. تَابُوْتٌ بِهِ جُثّةٌ .. جُثَّةُ مَنْ .. قَتِيْلٌ .. مَنْ هُوَ .. أَوْ مَنْ هِيَ .. أَسْئِلَةٌ تَتَسَارُعُ فِيْ الذِّهْنِ ..
وَ لا إِجَابَةٌ .. مَنْ يَسْأَلُ .. وَ مَنْ يُجِيْبُهُ .. أَرْجُلُهُ لاَ تَحْمِلُهُ .. خَائِفٌ .. يَرْتَجِفُ ... الْجَوّ بَارِدٌ .. مُمْطِرٌ ... !!!
أَخَذَ الْعُمَّالُ يَتَلَفَّتُونَ يَمِيْناً وَ يَسَاراً .. يَحْرِسُونَ الْجُثَّةَ .. وَ يَحْفِرُونَ الْحُفْرَةَ .. ثُمَّ يَضَعُوْنَ الْتَّابُوْتَ .. وَ يَتَلَفَّتُونَ مَرَّةً أُخْرَىَ ..
ثُمَّ يَعُوْدُوْنَ أَدارَجَهُمْ إِلَىَ الْقَصْرِ ..
سَأَلَ نَفْسَهُ : كَيْفَ يَقْتُلُ اِبْنَةَ عَمَّيْ .. بِهَذِهِ السُّهُولَةِ .. إِنَّهُ جَبَانٌ .. إِنَّهُ .....
ثُمَّ انْطُلِقَ مُسْرِعَاً : إِلَىْ مَكَانِ الْتَّابُوْتِ ... وَ أَخَذَ يَحْفُرُ .. بِكِلْتَا يَدَيْهِ .. تَكَسَّرَتْ أَظَافِرُهُ .. و أَدَمَتْ أَصَابِعَهُ .. وَ هُوَ لا يَشْعُرُ ..
فَقَطْ يُرِيْدُ أَنْ يَصِلَ .. اخْتَلَطَتِ دُمُوعُهُ .. مَعَ زَخَّاتِ الْمَطَرْ .. وَ هُوَ يَحْفُرُ ..
وَ وَصَلَ إِلَىَ الْتَّابُوْتِ أَخِيِرَاً .. يُحَاوِلُ أَنْ يَفْتَحَهُ .. وَ يُحَاوِلُ بِكُلِّ مَا أُوْتِيَ مِنْ قُوّةٍ .. نَعَمْ إِنَّهُ يَفْتَحُهُ ..
وَ يَصِلُ إِلَى .. أَطْرَافِ الْكَفَنِ .. وَ هُوَ يَصْرُخُ وَفَاءْ .. وَفَاءْ ...
فَكَّ رِبَاطَ الْكَفَنِ .. وَ تَفَاجَأ .. بِشُعَاعٍ قَوِيٍّ يَخْرُجُ .. مُنْعَكِسَاً مِنْ ضَوْءِ الْبَرْقِ .. بَرِيْقٌ وَ لَمَعَانٌ لَمْ يَعْتَدْ عَلَيْهِ .. فِيْ هَذَا الْظَّلامِ الدَّامِسِ .. حَاوَلَ أَنْ يَتَحَسَّسَ عَنْهُ .. مَا بِدَاخِلِ الْكَفَنِ لَيْسَ جُثَّةً .. بَلْ قِطْعٌ بَرَّاقَةٌ .. سَحَبَ إِحْدَاهَا فَإِذَا هِيَ قِطْعَةُ أَلْمَاسٍ .. وَ مَعَهَا قِطَعُ أُخْرَىَ كَثِيْرَةٌ .. إِنَّهُ كَنْزٌ .. كَنْزٌ أَوْ مَخْزَنُ ابْنُ الْفَقِيْرِ لِمَالِهِ .. إِنَّها سَاعَةُ الإِنْتِقَامِ ..
هُوَ صَاحِبِيِ الَّذِيْ لَمْ يَسْتَقْبِلْنِ .. لَمْ يُرَحِبْ بِيَ .. سَرَقَ حَبِيْبَتِيْ ..
فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ خَطَفَ الْكَيِِسَ بِكُلِّ مَا أُوْتِيَ مِنْ قُوّةٍ .. اسْتَخْرَجَهُ .. وَ ذْهَبَ يَجْرِيْ .. وَ هُوَ يَتَلَفَّتُ خَلْفُهُ ..
لَكِنْ .. هُوَ مُتْعَبٌ وَ قَدَمَاهُ لا تَكَادَانِ أَنَّ تَحِمِلاهُ ..
وَ فِي ظَلامِ الْلَّيِلِ الدَّامِسِ .. رَمَقَ ضَوْءاً خَافَتاً فِيْ دَاخِلِ الْغَابَةِ الْقَرِيبَةِ .. وَ كَأَنَّ الْضَّوْءَ يُشِيْرُ إِلَيْهِ .. أَنْ تَعَالَ ..
تَوَجَه إِلَى الْضَّوْءِ .. فَوَجَدَ كُوْخاً صَغِيْراً .. اقْتَرَبَ أَكْثَرَ .. فوَجَدَ عَنْزَتَانَ عِنْدَ الْبَابِ .. اقْتَرَبَ مِنْ الشُّبَّاكِ .. فوَجَدَ مِصْبَاحاً صَغِيْراً ..
وَ كَأَنَّ الْكُوخَ خَالِيِ ..
طَرَقَ الْبَابَ .. خَرَجَتْ لَهُ امْرَأَةٌ عَجُوُزٌ .. تَتَلَحَّفُ بِعْبَاءةٍ سَوْدَاءُ .. تَقُوْلُ : لَا أَمَاكِ سِوَىْ هَاتَيْنِ العَنَزَتَينَ .. فَإِنْ كُنْتَ لِصاً .. خُذْهُما وَ اذْهَبْ .. أَرْجُوْكْ ..!!
قَالَ : أُرِيْدُ أَنْ اسْتَرِيْحَ عِنْدَكِ قَلِيْلاً ..
بَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ الإِجْهَادِ وَ الْتَّعَبِ .. فَأَدْخَلَتْْهُ الْعَجُوزُ إِلَىَ الْكُوخِ .. قدَّمتْ لَهُ كَأْسَ حَلِيْبٍ .. وَ هِيَ تُحَضِّرُ لَهُ وَجْبَةَ عَشَاءٍ .. نَامَ مِنْ الْتَّعَبِ عَلَىَ طَاوِلَةِ الْطَّعَامِ .. وَ هُوَ يَضُمُّ بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ كِيْسَ الْمُجَوْهَرَاتِ ... وَ مَعَ أَذَانِ الْفَجْرِ .. أَيْقَظَتْهُ الَمرْأَةُ الْعَجُوزُ .. فَتَنَبَّهَ مَفْزُوعَاً .. وَ بَحْثَ عَنْ الْكَيِسِ فَإِذَا بهِ سَاقِطٌ بِجَانِبِهِ .. وَ قَدْ جَفّفَتْ الْعَجُوزُ مَلابِسَهُ .. وَ صَنَعَتْ لَهُ الحَليبَ .. وَ جَهَّزَتْ لَهُ مُصَلاّه لَيُؤَدِّيَ صَلاةَ الْفَجْرِ ..
قَامَ يَتَمَطَّى .. فَتَوَضَّأَ .. فَصَلَّى .. فَنَظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ ِنَظْرَةَ احْتِرَامٍ وَ تَقْدِيْرٍ .. ثُمَّ جَلَسَ عَلَىَ طَاوِلَةِ الْطَّعَامِ ... لِلْإِفْطَارِ  ...
سَأَلَهَا : مَنْ أَنْتِ ، قَالَتْ : وَحِيْدَةٌ لا بَيْتَ لَدَيَّ وَ لا وَلَدْ .. وَ أسْكُنُ فِيْ هَذَا الْكُوخِ مُنْذُ زَمَنْ.
ثُمَّ سَأَلَتْهُ : وَ أَنْتَ مَنْ تَكُوُنُ ؟؟  فَقَالَ : أَنَا قِصَّتِيْ طَوِيْلَةٌ .. ثُمَّ قَالَ : أَنَا سَأُكافِؤكِ عَلَىَ جَمِيْلِ صُنْعِكِ .. فَأَخْرَجَ إِحْدَىَ الْمُجَوْهَرَاتِ مِنْ كَيْسِهِ وَ أَعْطَاهَا إِيَّاهَا .. لَكِنَّهَا تَسَارَعَتْ تَسْأَلُ بِتَعَجُّبٍ .. أَتَدْرِيْ مَا هَذِهِ ؟؟؟؟ وَ كَمْ قِيْمَتُهَا .. قَالَ : لا .
قَالَتْ : يَا بُنَيّ ، أَنَا مِنْ أَدْرَى الْنَاسِ فِيْ هَذِهِ الْمَدِيْنَةِ بِالْمُجَوْهَرَاتِ .. وَ أَثْمَانِهَا .. وَ أَعْرِفُهَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ .. إِنَّ هَذِهِ بَاهِضَةُ الثَّمَنِ .. فَإِنْ سَمَحَتَ لِيَ .. ذَهَبْتُ إِلَىَ الْسَوُّقِ  .. وَ بِعْتُهَا لَكَ .. وَ أَحْضَرْتُ لَكَ ثَمَنَهَا .. ثُمَّ تُعْطِيْنِيْ مِنْ ثَمَنِهَا مَا أسْتَحَقُّ !!
فَكَّرَ الشَّابُّ مَلِيّاً .. ثُمَّ وَافَقَ عَلَىَ هَذَا الْرَّأْيِ بَعْدَ أَنْ رَأَىَ مِنْ هَذِهِ الْعَجُوزُ الأَمَانَةَ .. وَ حُسْنَ السَّمْتِ ..
وَ فِيْ الضُّحَىْ .. ذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ الْعَجُوْزُ لِلْسُّوْقِ .. وَ بَاعَتْ الْجَوْهَرَةَ .. وَ ابْتَاعَتْ طَعَاماً شَهِيَّاً لَهَا وَ لِلْشَّابِ .. ثُمَّ عَادَتْ فِيْ الظَّهِيْرَةِ وَ هِيَ تَحْمِلُ وَجْبَةَ الْغَدَاءِ ... كَانَ الْشَّابُ يَنْتَظِرُهَا بِفَارِغِ الْصَّبْرِ .. بِسَبَبِ الْجُوْعِ .. وَ الْخَوْفِ .. وَ حُبَّ مَعْرِفَةِ ثَمَنِ الْجَوْهَرَةِ الأُوْلَى مِنْ مُجَوْهَراتِهِ .. فَهُوَ تَاجِرٌ وَ سَيَقْدِرُ أن يَتَعَامَلَ مَعَ الْقِيمَةِ بِشَكْلٍ أَفْضَلَ.
مَا إِنْ رَجَعْتِ الْعَجُوزُ إِلَىَ الْكُوخِ .. حَتَّىَ اسْتَقْبَلَهَا .. وَ وَضَعَتْ لَهُ الْغَدَاءَ لِيُطْفِئَ جُوْعَهُ .. ثُمَّ أَخْرَجَتْ لَهُ الْبَاقِيَ مِنْ ثَمَنِ الْجَوْهَرَةِ وَ هُوَ مَبْلَغٌ كَبِيْرٌ ..
فَأَكَلَ بِشَهِيَّةٍ مَفْتُوْحَةٍ .. ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ اسْتَلْقَى وَ نَامَ ... نَوْماً عَمِيْقاً ... اسْتَيْقَظَ لَصَّلاةِ الْمَغْرِبِ .. وَ أَخَذَ يَتَجَاذَبُ أَطْرَافَ الْحَدِيْثِ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ صَاحِبَةَ الْكُوخِ ..
وَ قَالَ : أَنَا مَقْطُوْعٌ مِنْ شِجَرَةٍ .. وَ لا أَعْرِفَ أَحَداً في ِهَذِهِ الْبَلْدَةِ أَبَداً ..
فَاقْتَرَحَتْ عَلَيْهِ أَنْ تُسَاعِدَهُ فِيْ بَيْعِ الْمُجَوْهَرَاتِ .. وَاحِدَةً .. وَاحِدَةً ..
وَافَقَ الشَّابَّ عَلَىَ هَذِهِ الْفِكْرَةِ النَّيِّرَةِ .. وَ نَامَ تِلْكَ الْلَّيْلَةِ هَانِئَاً .. وَ اسْتَيْقَظَ نَشِيْطاً .. وَ أَرْسَلَ الْعَجُوزَ .. وَ قَبَضَ ثَمَنَ الْجَوْهَرَةِ الْثَّانِيَةِ .. وَ اسْتَمَرَّ عَلَىَ هَذَا الْحَالِ .. يَوْمِيّاً .. وَبَعْدَ اسَبُوْعَيْنِ .. عَادَتْ الْعَجُوزُ .. وَ مَعَهَا خَبَرٌ .. أَنَّ هُنَاكَ قَصْرٌ فِيْ الْمَدِيْنَةِ مَعْرُوْضٌ لِلْبَيْعِ بِسِعْرِ زَهِيْدٍ .. صَفْقَةٌ عَقَارِيَّةٌ مُرْبِحَةٌ جَدَّاً .. وَ مَا مَعَهُ مِنْ نُقُوْدٍ كَافِيَّةٌ لِشِرَاءِ ذَلِكَ القَصَرِ ..
وَ بِمَعْرِفَةِ الشَّابِّ الْتِّجَارِيَّةِ .. بَادَرَ وَ اشْتَرَىْ القَصْرَ .. عَلَى عَجَلَةٍ .. فَهُوَ صَاحِبُ الْصَفْقَاتِ السَّرِيْعَةِ .. وَ بَعْدَ أَنْ عَادَ إِلَىَ الْكُوخِ مَعَ الْعَجُوزِ .. وَ هُمَا يَمْلِكَانِ قَصْراً ..
سَأَلَهَا هَلْ لَكِ أَبْنَاءٌ : قَالَتْ ،، أُرَحِبُ أَنْ تَكُوْنَ أَنْتَ اِبْنِي الَّذِيْ أنْتَظِرُهُ ..
فَقَالَ : وَ أَنْتِ أُمِّيَ الَّتِيْ فَقَدْتُهَا .. وَ انْتَقَلا مَعَاً إِلَىَ الْقَصْرِ الْجَدِيْدِ ..
وَ بَعْدَ مُضِيِّ أسَبُوْعَيْنِ .. قَالَتِ الْعَجُوْزُ: يَا بُنَيْ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ الْكَبِيْرَ .. يَحْتَاجُ إِلَىَ زَوْجَةٍ .. وَ أَطْفَالٍ .. وَ أَنَا أَعْرِفُ أَجْمَلَ بِنْتٍ فِيْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ .. وَ لكُنْ لِيَ شَرْطٌ بَسِيْطٌ .. بَسِيْطٌ .. إِنْ وَافْقَتَ عَلَىَ الْزَّوَاجِ مِنْهَا ...
قَالَ : مَا هُوَ ؟
قَالَتْ : أَنْ لا تَرَاهَا إِلاَّ فِيْ لَيْلَةِ الزّفَافِ .. وَ هَذَا هُوَ شَرْطُهَا ..
رَفَضَ وَ امْتَنَعَ .. وَ لَكِنْ مَعْ إِصْرَارِ الْعَجوزِ عَلَيْهِ .. وَافَقَ إِرْضَاءً لَهَا ..
بَدَأَتِ الْعَجوزَةُ تُعِدُ لِحَفْلَةِ الْزّفَافِ .. فَهِيَ تَعْرِفُ الْقَرْيَةَ أَكْثَرَ مِنْه .. وَ تَمَضْيِ لَيْلَهَا وَ نَهَارَهَا فِيْ تَجْهِيْزِ الْقَصْرِ ... الزَّوْجِ .. الزَّوْجَةِ .. حَفَلَ الْزّفَافِ ... الدَّعَوَاتِ .. وَ مَا إِلَىَ ذَلِكَ !!
وَ أَتَتْ لَيْلَةُ الْعُرْسِ .. حَضَرَ الْصَّغِيْرُ وَ الْكَبِيْرُ لِهَذِهِ الْحَفْلَةِ .. حَتَّىَ أَمِيْرُ الْقَرْيَةِ وَ كَبِيْرُهُمْ .. أَخْذ الشّابُ بِالْتَّرْحِيْبِ بِالْجَمِيْعِ .. حَفَلٌ لَمْ يُتَوَقَّعْ أَنْ يَكُوْنَ بِهَذَا الْحَجْمِ ... وَ كَانَتْ أُمُّهُ الْعَجُوزُ بِجَانِبِهِ .. تُعَرِّفُهُ عَلَىَ الْحَاضِرِيْنَ وَ تُعْرّفُهُم بِهِ .. وَ الْكُلُّ .. يُبَارِكُ هَذَا الْزَّوَاجِ .. وَ فِيْ خِضَمِّ هَذِهِ الْفَرْحَةِ الْكَبِيْرَةِ .. سَأَلَ أَمِيْرُ الْقَرْيَةِ عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَكُنْ حَاضِراً فِيْ هَذِهِ الْحَفْلَةِ .. وَ لَكِنَّ أَهْلُ الْمَدِيْنَةِ كُلُّهُمْ يَعْرِفُونَهُ .. إِنَّهُ اِبْنُ الْفَقِيْرِ .. صَدِيْقُ صَاحِبِ الْحَفْلِ ..
إِنَّ هَذَا الْسُّؤَالَ .. فَجّرَ فِيْ قَلْبِ ابْنِ الْغَنِيِّ الْذِّكْرَيَاتِ وَ الْلَّيَالِي الْمُظْلِمَةَ .. فَصَرَخَ .. هَذَا يَجِبُ أَنْ لا يَحْضُرَ حَفْلَتِي .. وَ لا يَدْخُلُ قَصْرِيْ .. وَ لا أُرِيْدُ أَنْ أسْمَعَ اسْمُهُ هُنَا ..
اسْتَغْرَبَ الْحُضُوْرُ الْمَوْقِفَ الْمُتَشَنِّجُ .. وَ سَأَلَ الأَمِيرُ: لِمَاذَا ؟.
أَجَابَ بِأَلَمٍ : أَنَا مَنْ عَمَلَ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ دُوْنَ مِنّةٍ .. وَ حِيْنَمَا احْتجتُهُ .. وَجَدْتُهُ قَلِيْلَ الذِّمَّةِ .. زَوّجْتُهُ حَبِيْبَتِيْ ابْنَةُ عَمِّيَ .. وَ ضَرَبَهَا وَ أَهَانَهَا .. أَمَامِيَ .. وَ لَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ بِكَلِمَةٍ وَ لا سَلامٍ حِيْنَمَا كُنْتُ بِأَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ .. أَرْجُوْكُمْ .. قِصَّتُهُ تُؤْلِمُنِيْ .. لا أُرِيْدُ أَنْ أَذْكُرَهَا أَوْ أَسْمَعَهَا أَوْ أَتَذَكَّرَهَا ... رَجَاءً ؟؟ .
فَرَدَّ الأَمِيرُ : إِنْ كَانَ مَا تَقُوْلُهُ صَحِيْحاً .. فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْخُرُوْجَ مِنْ قَرْيَتِنَا هَذِهِ!!
وَقَفْتِ الْعَجُوزُ مُتَأَنِّيَةً بَيْنَ ابْنِ الْغَنِيِّ وَ الأَمِيْرِ .. وَ قَالَتْ : أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْتَ، الآَنَ سَمِعَتَ مِنْ طَرْفٍ وَاحِدٍ .. وَ لِتَحْكُمَ بِالْعَدْلِ .. يَجِبُ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الطَّرَفِ الْثَّانِيَ ..
هَزَّ الأَمِيرُ رَأْسَهُ وَ قَالَ : أَصَبْتِ .. احْضِرُوا لِيَ ابْنَ الْفَقِيْرِ .. وَ كَانَ يُزَمْجِرُ بِصَوْتٍ عَالٍ ..
مَا هِيَ سِوَىَ لَحَظَاتٍ .. حتى دَخَلَ ابْنُ الْفَقِيْرِ مُبْتَسِمَاً .. كَعَادَتِهِ مِنْ يَوْمِ أَنْ عَرَفَهُ فِيْ لِقَائِهِما الأَوَّلَ .. خَارِجَ الْبِلادِ .. أَيَّامَ الْشَبَابِ ..
صَدَّ عَنْهُ ابْنُ الْغَنِيّ .. وَ أَعْطَاهُ ظَهْرَهُ .. وَ لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ ..
وَجّهَ الأَمِيرُ سُؤَالَهُ إِلَى ابْنِ الْفَقِيْرِ : .. هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الشَّابَ ،،
قَالَ : نَعَمْ .. إِنَّهُ أَعَزُّ أَصْدِقَائِيِ .. وَ كُلُّ مَا أَنَا فِيْهِ مِنْ خَيْرٍ .. هُوَ سَبَبَهُ .. أَتَانِيَ يَوْمَاً فِيْ حَاجَةٍ .. فَوَهَبْتُ لَهُ نِصْفَ مَا أَمْلِكُ فِيْ تَابُوْتٍ .. وَفَاءً لَهُ ..
وَ وَضَعَتُ أُمِّيَ أَعزُّ مَا فِيْ حَيَاتِيْ .. فِيْ كُوْخٍ فِيْ الْغَابَةِ لتَرْعَاهُ .. وَ تُوَنِّسُهُ ..
وَ زَوّجْتُهُ أُخْتِيَ .. الَّتِيْ حَفْلَةُ زَفَافِهَا الْلَّيْلَةَ .. وَفَاءً لتَزْوِيِجِهِ إِيَّايَ بِوَفَاءٍ ابْنَةُ عَمِّهِ ..
وَ كُلُّ هَذَا لِيَعْلَمَ أَنِّيْ لا أُرِيْدُ أَنْ أَمُنَّ عَلَيْهِ بِحَاجَةٍ وَهَبْتُهَا لَهُ .. فَلا يَشْعُرُ تِجَاهِيَ بِقُصُورٍ أَوْ نَقَصٍ .. وَ الآنْ لَوْ طَلَبَ مِنِّيْ كُلَّ ما أَمْلِكُ  .. فَلَنْ أَبْخَلَ بِهِ عَلَيْهِ.

الْتَفَتَ إِلَيْهِ ابْنُ الْغَنِيُّ .. بِعُيُوْنٍ لا تَسْتَطِيْعُ الْكَلامَ .. بَلْ تَذْرِفَانِ وَ تَذْرِفَانِ .. فَرَحَاً .. فِيْ لَيْلَةِ فَرَحٍ .. وَ الأُمُّ هِيَ الأُمُّ .. وَ وَفَاءُ تَشْهَدُ لِهَذَا الْوَفَاءِ ...